كم من المرات خلوت بنفسك وحملك عقلك إلى ماضٍ قريب أو سحيق تتلمس فيه ذكريات سعيدة ، فتغرق في تذكر تفاصيلها لدقائق قد تطول طالما لم يوقف هذا التيار أحد . بإمكانك استجلاب الذكريات بحواسك الخمسة ، فللذكريات رؤى ومذاقات وروائح وملمس وأصوات ، كلها تساعد على نفض الغبار عن صور قديمة مخزنة في دهاليز الذاكرة .
كلما خرجت في صباح باكر وتسللت إلى أنفي رائحة الشوارع وعانقتني نسائم الصباح قفزت فوراً صورة صباحات مدرستي دار الحنان قبل ما يزيد عن ثلاثين سنة مضت .. الاستيقاظ المبكر وارتداء ثيابي على أخبارإذاعة “صوت أمريكا” – أيام ( الفقعنة) والتمظهر بمظهر المثقفين – الباص والتجول في المدينة التي تنفض عن أرجائها آثار النوم ، رائحة البسطرمة والبيض في بعض الأحياء الشعبية ، الجو المعتدل الجميل لصباح جدة .. الوقوف في الطابور ، قراءة سورة الفاتحة وإلقاء النشيد الوطني ثم نشيد المدرسة ، الاستماع إلى الإذاعة الرتيبة : مديرتي الفاضلة ، مدرساتي الحبيبات ، أخواتي الطالبات ، أسعد الله صباحكن بكل خير .. ( الدبور ) التقليدي يمرح كالعادة بين الطوابير وينعم بوقت ممتع وهو يرى صفوف البنات تتبعثر بفزع مبالغ فيه ، يجرين واضعات أيديهن في آذانهن ، ويصرخن بأعلى طبقة تصل إليها حناجرهن في محاولة لتبديد النظام المدرسي الرتيب ..
كلما دخلت مكتبة وتجولت بين خزائنها تذكرت مكتبة مدرستي المرتبة المنمقة الزاخرة بالعديد من القصص المسيلة للعاب .. كنت زبونة دائمة عندهم ، أستعير القصة لأقرأها في الباص وأرجعها في اليوم التالي . هذه المكتبة كانت تؤدي أغراضاً عدة .. فهي ” ليست مجرد مكتبة ” ، وإنما قاعة للندوات ، وتقام فيها المسابقات الثقافية والمساجلات الشعرية بين الفصول ، وتقام فيها معارض الكتاب والتي كنا نتأخر بعد الدوام المدرسي للمساعدة في إعدادها وحتى التاسعة مساء .. رائحة البروستد اليوم تذكرني ببروستد البيك ( الذي لم يكن عندنا غيره آنذاك ) والذي كانت تطلبه لنا إدارة المدرسة كغداء بسبب هذا التأخير .. ولا يخفى ما في هذا التأخير من ( فَلة وحماس ) !!
نفس المشهد قد يجلب ذِكريَيْن في آن واحد ، فذات المكتبة التي تذكرني بمكتبة مدرستي ، تذكرني كذلك بمكتبة دار المعارف بالقاهرة والتي دخلتها في صغري .. جلت بين أرجائها وحملت في يدي الصغيرتين ما استطعت أن أحمله من القصص التي لا أجدها في جدة .. قصص المكتبة الخضراء ، والمغامرين الخمسة والأربعة والثلاثة ، مجلدات لولو وميكي وسمير .. أرجع إلى بلدي لا تسعني الفرحة وبيدي هذا الكنز الثمين ، وزاد هوايتي لأشهر قادمة قبل أن أعود فأجترها من جديد .
رائحة عوادم السيارات عند الظهيرة تذكرني بموعد الرجوع من المدرسة .. ذات (اللفلفة الصباحية ) في الشوارع إلا أن الشوارع في الظهر أكثر ازدحاماً ، والحر أشد وطئة ، ورائحة السمك المقلي تنبعث من بعض المطاعم ، فتحرك الجوع في البطون الصغيرة الخاوية .. صوت إحدى البنات يرتفع لتُسمِع صديقتها التي سألتها عن غدائهم اليوم : اليوم غداؤنا بامية .. فيرتفع حاجبي الأيسر وأفكر : همممم.. كيف عرفت أن غداءهم بامية ؟ هل أخبرتها والدتها ( من صباح العالمين ) قبل أن تغادر إلى المدرسة عن عزمها على طهي البامية ؟ ما شاء الله عليها .. كيف قوي قلب الوالدة على التفكير بالإيدامات في هذه الساعة المبكرة من اليوم ! أو أن الفتاة ( تخرش ) على صديقتها !!
كلما شممت رائحة الكتب الورقية الزكية أتذكر بالكثير من السعادة مستودع الكتب في مدرسة الطفولة .. كانت مدرّستي تستعين بي لأستخرج الكتب الدراسية الجديدة من مستودع الكتب .. أدخل هذه الحجرة الواسعة وتعانقني رائحة الورق القوية ، آخذ نفساً عميقاً أثبّت به الرائحة في ذاكرتي أكثر وأكثر .. أحمل الكتب اللامعة الجديدة والمصقولة ، وأستمتع بتوزيعها على الطالبات ، وأستمتع أكثر بمشاعر الفخر والزهو تغمرني لأني ( مهمة ) وأؤدي دوراً ( مهماً ) في توزيع الكتب ، ولو كنت لئيمة بعض الشيء لنهرتهن قائلة ( الي ما تجلس مكانها ما حتأخذ كتبها ) فقط لأستمتع بسرعة انصياعهن لأوامري وبتضخم الغرور في قلبي الصغير .. ولكني لم أكن لئيمة بفضل الله !
قصص أولادي عن الاستئذان المستمر للخروج من الحصة لشرب الماء أو الذهاب إلى الحمام يثير في ذاكرتي الكثير من البهجة ، حينما ترسلني مدرسة الجغرافيا لجلب خريطة “قرغيزيا” من الإدارة ، فأخرج بسعادة تشيعني نظرات زميلاتي الحاسدة وأمشي في تلكؤ إلى أن أصل الإدارة ، وأبحث في تلكؤ عن الخريطة بين خرائط الصومال ومدغشقر والواق واق ، وأعود في تلكؤ أيضاً .. أو تطلبني مدرسة أخرى لأساعدها وبعض المتفوقات من فصول ” العلمي “و ” الأدبي ” الآخر في صف أوراق المجلة التي تطبعها المدرسة سنوياً استعداداً لتغليفها ، فأخرج لأجد أن هؤلاء المتفوقات هن صديقاتي الشخصيات ، فنظل نعمل حصتين متواليتين في جد تارة ، وفي مزح وضحك تارات أكثر .
وإذا وقعت عيناي على صورة لأحد الرياضين وهو يرفع الكأس بيديه ، أتذكر ذلك اليوم السعيد الذي اختارتني فيه مدرستي الطالبة المثالية لعام 1404 هـ وذلك في حفل تخرجي من الثانوية .. يومها حملت الكأس في يدي ورفعته كما يفعل هؤلاء الرياضيون تماماً ، وتعالت أصوات التصفيق والتصفير من القاعة وأنا أشعر بالإثارة تكاد تقطع أنفاسي ، وبالهبل في الوقت ذاته !!
ومع كل ما قد ذُُكر فإن الذكريات المستجلبة لا تكون سعيدة دائماً.. رائحة القهوة التي أشمها في مستشفى الحرس الوطني بالذات تذكرني بأيام الكيماوي .. عبق القهوة المنعش ، الزاكي ، الذي يفترض فيه أن (يصحصح ) يثير فيّ غثياناً قوياً لأني كنت أشم هذه الرائحة بكثرة في كل مرة أذهب إلى المستشفى لتلقي جرعات الكيماوي ..
بعض الصور لأشخاص طوتهم الأرض في أكنافها ، أو رسائل جوال تذكر بمشاكل عائلية أليمة ، أو عبارات تقرع في الذهن أجراساً قديمة ، كلها قد لا تكون من النعيم ، ولكنها تطرق أبواب عقلك بإصرار وعناد فلا تستطيع لها صرفاً ولا تحويلاً .. إلا أن هناك مخرج دائماً من تلك الذكريات التعيسة ، وهي أن تتذكر ألطاف الله تعالى في أثنائها ، وفرجه بعدها .
أحب دائماً أن أردد أن الله تعالى إذا أنزل بلاء فإنه ينزل من اللطف ما يساوي ذاك البلاء أو يفوقه ، وعلى العبد أن يفتش عن هذا اللطف ، فإنه إذا رآه بعين بصيرته رآه يفوق بلاءه حتى تنسي عذوبته ( اللطف ) مرارته ( البلاء ) .كم من النعم لحظتها أثناء مرضي بالسرطان ، أو بالأدق : لم ألحظها إلا أثناء إصابتي بالسرطان ، غمرتني حتى أعمتني بلطافتها عن رؤية البلاء العظيم .. رأيتها في أولادي وصديقاتي وبنات أخواني وآلاء الله علي في كل شيء ، فتعاظمت وبهرني جمالها وجلالها حتى إذا ما خطرت في ذهني صور السرطان لم أر – معظماً – إلا صور عطاء الأحبة وتشجيعهم وكل نعم الله في هذا البلاء تتقاطر من حولي ..
هناك الكثير من الذكريات الجميلة ، ولابد للعاقل أن يعمل جاهداً على تأجيج أوارها في القلب لأنها تمنح الجزيل من السعادة والدفء إذا غرق القلب في بحور الألم والمرارة .
ياااااااااااااااااااااااااااااااااااي يا عمة مرررررررررررررررررة حلو الكلام تبارك الله 🙂
ذكريات المدرسة تتشابه سبحان الله ..
خليتي مخي يروح بعيييييييييييييييد ..
واصلي الروعة ()
الذاكره كتاب الذكريات أوراقه و الحزن و السعاده فصول في أبواب أحداثه ،تخلو له انفسنا فنغوص في أعماقه لنغرق في أسعد لحظات الحياه ،فما علينا إلا أن لا نسبح في الفصول الحزينه لأن لا نأججها لنصل إلى كما( قلت ) الرؤى والمذاقات والروائح ،،،،
ما أسعد هذه اللحظات حين اقرأ هذه المدونه الرائعه.
أروى وليال
شكراً لكما يا غاليات إطراءكما وثناءكما .. أنتما ترضيان غروري فعلاً !!
رائعه كعادتك خاله هناء وصفك للتفاصيل الصغيرة أخذني معك وفي عالمك ..حتى وكأنني أشم ذاكرة الرائحة خلف أبجديات الحروف..
أتفق معك [ان المصيبة مهما عظمت انزل الله معها لطفاً يساويها أو يفوقها ..
لكل شئ حكمة نجهلها وربما لا نكاد نعرفها الا بعد مرور الزمن فسبحان الله
عجيبة هي الذاكرة كيف تختزن الروائح والطعوم وتربطها بالذكريات …
هل تصدقين أن رائحة الديتول على روعتها تذكرني بذكرى مؤلمة هي وفاة والدي حين كان منوماً في المستشفى …
بينما تذكرني رائحة قشر البرتقال باصابع ابي ويديه البيضاوان وهو يقشر لي برتقالة وأنا صغيرة لا أدري لماذا أتذكر عصر ذلك اليوم جيداً …
أحاول دائماً أن أجد لكل رائحة ذات ذكرى مؤلمة ذكرى أخرى أكثر تفاؤلاً واشراقاً …
وكتاباتك لاشك أنها من أسباب ذكرياتي وسعادتي الانترنتية وهي لاشك فسحة واسترخاء من أخبار المظاهرات وايميلات التحذير من المواد الحافظة، وبرامج التجسس والتحذير من تقفيل الحساب والايمان المغلظة التي تستحثني على اعادة الارسال …الخ
خير ان شاء الله … مكتبة دار الحنان (ليست مجرد مكتبة) … على بالي مكتبة جرير … اههههههه
آآآآآآآآآآه يا تختخ … فينك عن بياخات رجل المستحيل …
حمستيني لأعود فأقلب في قصصي القديمة…
ميو ، ما شا ء الله عليك نبيهة للغاية ..
ذكرياتك بدار الحنان وماتحمله من حماس وحب للحياة تعودني بذكرياتي بداري دار الحكمة … المشاركة بالمساجلات الشعرية … الانشطة … المعارض ….
وبذلك يعاودني الحنين وتخنقني العبرة
[…] لم تطلع على الجزء الأول من استجلاب الذكريات ، فلعلك تفعل الآن […]