كنت البارحة أقلب في القنوات الفضائية المحافظة في رسيفر الفلك ، ووقعت على حلقة لحملة ركاز لعام 2009 والتي كانت ( الحملة لا الحلقة ) بعنوان ” فاز من حياته إنجاز ” .
كان المتحدث في هذه الحلقة الداعية : سلطان الدغيلبي وذكر في الحقيقة كلاماً جميلاً أعجبني ، وجاءت ابنتي لطيفة ذات السنوات التسعة تريد مني أن أغيّر لها على قناة الأطفال فرفضت ، فما كان منها إلا أن شدها حديثه فجلست حتى نهاية البرنامج .
ذكر الشيخ عدة أمثلة لإنجازات أفراد عاديين وكيف أن المرء لابد أن تكون في حياته بعض الإنجازات ..
تفكرت .. فعلاً .. كم عاش أي منا في هذه الحياة حتى الآن ؟ عشرون سنة ؟ ثلاثون؟ ستون ؟ ماذا أنجز في هذه السنين ؟
يخطئ من يظن أن الإنجازات لابد أن تكون على مستوى كبير ليصح أن نطلق عليها لفظة “إنجاز ” .. نعم ، المشاريع الكبيرة إنجازات بلا شك ، ولكن قليل دائم خير من كثير منقطع ، وهناك الكثير من الإنجازات التي يمكن لكل فرد منا عملها ، فقط لو ترسخ في ذهنه أنه مسلم ، والمسلم مأمور بالعمل البنّاء حيثما كان وكيفما كان ، ثم هو بعد ذلك سيكون مأجوراً على قدر الإنجاز الذي حققه ومدى تعديه إلى غيره ..
ألم يرتب النبي r الأجور على أفعال بسيطة ؟ ألم يحثنا على أفعال صغيرة أداء كبيرة أجراً ؟ خذ هذه الجملة الصالحة من الأحاديث النبوية :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :” كُلُّ سُلامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ ، يَعْدِلُ بَيْنَ الإثْنَيْنِ صَدَقَةٌ ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ ” . رواه البخاري .
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : “تبسمك في وجه أخيك لك صدقة ، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة ، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة ، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة ، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة ، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة “، رواه الترمذي وصححه الألباني .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ” إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها ” ، رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني .
وهناك الكثير والكثير من الأحاديث الحاثة على الإنجازات ، أعرضت عن ذكرها تجنباً للتطويل الذي يكرهه قراء المدونات في العادة ، ولئلا تتحول تدوينتي إلى محاضرة مدرسية، واكتفيت بذكر ما سبق كأمثلة لبعض ما يمكن لجميع المسلمين المداومة على فعله لتكون حيواتهم سلسلة من الإنجازات المترابطة ويحظون بالفوز . لكن ألم تلحظوا معي أن أغلب ما ذكر من الأمثلة هي أفعال متعدية ، تتعدى نطاق الفاعل لتصل ببرها وإحسانها إلى الغير؟
في حياتي رأيت الكثير من هؤلاء ( المنجزين ) ..
هناك أمي حفظها الله وأطال في عمرها وأحسن عملها ، كانت تشتري الصوف وتشتغله بالصنارتين قمصاناً ( وجواكيت وسديريات ) ثم تدفع بمنتجاتها إليّ لأوزعه على من أعرف من المعوزين حينما كنت أقطن القصيم .. ولا يخفاك كيف هو برد القصيم !! كما يقولون ( يقص المسمار ) . وكانت تشتري الشرائط والورود وتصنع منها ( بكلاً ) للشعر تبيعها وتتصدق بثمنها ، فكانت تشغل وقتها وتتصدق .. ألا تذكركم بزوج النبي صلى الله عليه وسلم التي قال عنها لما سألته أزواجه : أينا أسرع بك لحوقاً ؟ قال: “أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً ” ، رواه مسلم من حديث عائشة .
من كانت أطولهن يداً ؟ هذه إجابة أتركها لكم لتبحثوا عنها ، والبركة في العم قوقل .
مساعدة من صديق : صفتها أنها كانت تعمل بيدها وتتصدق !
وهناك إحدى صديقاتي التي اعتادت على التصدق بمبلغ ثابت خصصته لطلبة العلم رقيقي الحال في عنيزة .. لم يكن مبلغاً كبيراً ، اعتقد أنه مئة ريال شهرياً .. ولكني أعتقد أن المواظبة على استقطاع مبلغ مئة ريال من مصروف البيت شهرياً ( في وقت كانت المئة تشتري أشياء كثيرة ) هو إنجاز كبير ، إذ النفس لا تستنكف عن شراء تفاهات أو وجبات غذائية ( جنكية مصيرها إلى دورة المياه – أعزكم الله -) بمئة أو اثنتين او ثلاثة ، ولكن تضيق عينها ( النفس لا صديقتي طبعاً ) عن التصدق بهذه المئة .
ثم أن هذه الصديقة مرت بضائقة مالية شديدة لمشاكل حدثت مع زوجها في عمله ورغم ذلك لم تنقطع هذه الصدقة .. نعم ، ضعفت بعض الشيء ، ولكني كنت كلما أرى صديقتي كانت تدس في يدي مبلغاً ما ، وكأني بها تقتطعه من ما كانت تنوي شراءه لنفسها من ثياب أو طعام تستمتع به .. ثم مضت الأيام ، وتحسن وضع زوجها المالي بفضل الله ، وعادت حياتها رغيدة -بارك الله فيها – ، وما أحسب ذلك إلا من تلك الصدقة ( التي علمت عنها ، ومالا أعلمه أنا يعلمه الله ) .
هناك صديقة أخرى ، عندها الكثير من العيال ، وكانت تتوق لحفظ القرآن ، إلا أن مشاغل عيالها وطلبات زوجها الكثيرة وبيتها الكبير كان يمنعها من ذلك ، فطلبت من زوجها خادماً تساعدها فأجابها ، فكانت تقول لي : لو جاءتني الخادم فسيسألني الله تعالى عن الوقت الذي سيتبقى لي فارغاً ( وهو كثير ) ، لذا لابد أن أستغل وجودها وأحفظ القرآن وأراجعه وأطلب العلم .. فكانت تحفظ يومياً ثلاثة أوجه من القرآن حتى أتمت حفظ القرآن ثم طلبت العلم وصارت داعية مشهورة في بلدتها إلى أن توفاها الله تعالى منذ بضع سنوات ، رحمها الله ورفع درجتها في الجنة .
ما رأيكم في إنجاز إحدى النساء التشاديات التي كانت تساعدني في البيت . كانت تعمل لدي باليومية منذ ثمان عشرة سنة ، وكانت تعلم أني أطلب العلم وألقي المحاضرات .. فكانت منذ أن تطأ بيتي في أول النهار إلى أن تغادره في آخر النهار تكون في خدمة العلم .. كانت تطبخ وتغسل وتكوي وتنتبه على صغاري ، بل وتحمل فاطمتي ذات السنتين على ظهرها كعادة الأفارقة إذا بكت وأرادت النوم ، وتغلق عليّ باب مكتبي لأتفرغ لتحضير درس الليلة وتقول : أنا لا أحسن طلب العلم ولا إعطاء الدروس والمحاضرات ، لكن بإمكاني أن أساعدك لتتمكني أنت من فعل ذلك ! سبحان من فقهها !!
أما شيخي الشيخ محمد بن صالح العثيمين ، فما أدراك ما الشيخ ابن عثيمين .. حياة عظيمة حافلة بالإنجازات ، وآثاره تراها في التسجيلات والمكتبات ، وفي الدعاة والمشائخ الشباب الذين تتلمذوا عليه مباشرة أو من خلال أشرطته .. كم من الناس اهتدى بعد ضلال بسبب هذا الرجل العملاق ؟ كم من الأجور تكتب له يومياً ؟ كم من الدرجات سيعلو في الجنة ؟ أهناك فوز أعظم من هذا ؟
أحكي لكم عن شيء واحد فقط رأيته أثناء سكني في عنيزة .. كنت أرى ( الشيّاب ) الذين زوجوا أولادهم وتقاعدوا من أعمالهم يجتمعون يومياً ثللاً أمام دار أحدهم ، (يتقهوون ويسولفون ) من بعد صلاة العصر وحتى ( الأخير ) أي صلاة العشاء ، ثم يرجع كل منهم لداره ، يتناول عشاءه وينتهي يومه .
أما الشيخ رحمه الله ، فكنت أراه يذهب يومياً ( لا أراه يومياً ، ولكنه كان يذهب يومياً ، للدقة فقط ! ) من منزله إلى مسجده بعد صلاة العصر ، يمشي أحياناً ويركب السيارة أحياناً أخرى ، ليلقي درساً بعد الصلاة ، كان وقتها يشرح رياض الصالحين ( وهو كتاب رائع حوى ألواناً من الفوائد عجيبة وبأسلوب سهل وسلس ) ، ثم كان يذهب بعد المغرب ليلقي دروساً في شرح بلوغ المرام أو شرح زاد المستقنع ، ثم يصلي العشاء ويلقي دروساً في شرح البخاري ومسلم والكافي من الفقه الحنبلي .. هو نفس الوقت الذي كان يقضيه أولئك الشيبان في تناول القهوة والكلام الفارغ غالباً .. وأقول : سبحان مقسم الأرزاق .. هذا الرجل العظيم أراد الله به خيراً فرزقه الفقه في الدين فكانت حياته بستاناً أخضرا بهيجاً ينشر الظل الرائق ويعطي الثمار الريّا ، ثم هو من قبل ومن بعد بهجة للناظرين ، وأولئك ……
هناك الكثير من الأمثلة التي أستطيع أن أضربها لإنجازات أفراد عاديين مروا في حياتي .. لا تحتاج إلى كثير مال ، أو كبير موهبة .. تحتاج فقط نية حسنة في التقرب إلى الله ، ومتابعة لشرعه لئلا تفضي إلى معصية أو بدعة فيسيء من حيث أراد الإحسان ، ثم همة يبدأ بتدريبها كالطفل الصغير لتقوى حتى يصير ذا نفس كبيرة يتعب في مراده جسمه ، وما ألذه من تعب .
هيا انهض ، وحقق بعض الإنجازات في حياتك .. لا ليذكرك الناس بخير ، ولكن لتشرف بأن تحوي نفساً منجزة بين ضلعيك ، ولتكون عند الله كبيراً ، ثم لتحظ بالفوز ، هنا وهناك ..
ياااااااااااااااااااااااااااااااه يا عمة ..
مدونة رااااااااااااااااااااااااائعة جداً تبارك الله ..
شعور جميل يعتريني بعد قراءة كلماتك .. معنوياتي تقفز .. أتوق للإنجاز 🙂
الله يقدرنا ويعيننا على كل نافع ومفيد ..
سلمت يمينك 🙂
الله يقدرنا ويتقبل منا يارب!!
جزاكي الله خيرا يا خالتي العزيزة على هذه الكلمات الجميلة 🙂
ما شاء الله تبارك الله يا عمتي الحبيبة لك شو هالإبداع عين الله حولك :))
لا فضت مدونتك ورحم الله جدتك ..
كلامك يحمسسسني يا عمة إني أواصل المشوار ..
جزاك الله خيراً ونفع بك ..
ع قوول أسوو ..
والله حمستيني يآ عمة أكتر وأكتر ..
لآزم تكوون لنآ بصمة ف الدنيآ دي …
والله يقدّرناا .. ويعطينآ إخلآص النية يآرب ..
لا أدري لماذا تذكرت مسألة قلتيها لي مرة ولازلت أذكرها وأرددها كلما وجدت فرصة مناسبة لذلك …
قلتي لي مرة… عن نوع من أنواع الصدقة وهو تصدق الانسان بجاهه … يعني جمع التبرعات والحث عليه ما يعتبره البعض ((شحتة)) وهو في الواقع من أروع صور التصدق…
بارك الله فيك على هذه التدوينة الرائعة … الى الامام استاذتي الغالية…ونحن من ورائك،،،
كلـآمْ رآئع .. اللہ يقدرنـآ
جزآك اللـَّہ خير 🙂
كلام جميل .. جزآك اللـہ خير 🙂