العب بذكاء!
26 يوليو 2013 بواسطة هناء
في الماضي القريب كان آباؤنا يعملون جاهدين الساعات الطوال لتوفير لقمة العيش في ظروف صعبة ؛ يضطر بعضهم للعمل تحت الشمس من قبيل الفجر وحتى الغروب ، يتسلق النخل ويتعرض لخطر السقوط. أو يعملون في البحار لصيد السمك أو جنى اللؤلؤ ويغيبون عن بيوتهم وأهاليهم أياماً، وقد لا يعودون . أو يسافرون بحثاً عن الرزق في بلاد بعيدة، يقطعون المفاوز ويواجهون قطاع الطرق ثم قد لا تتجاوز غلة أحدهم بعد كل هذه المتاعب العشرة ريالات، أو ما يساوي في زمننا الحاضر ألف ريال.
كانت المراكب الفارهة والبيوت متعددة الحجرات والأثاث المريح يكاد يكون محصوراً على الأثرياء والتجار فقط، وكان كثير من الناس لا يذوقون اللحم إلا في عيد الأضحى وينعدم عندهم التوسع في المآكل والملابس إلا في الأعياد. أما حيازة الخدم فكانت ترفاً بالغاً لا تكاد تجده إلا في بيوتات محدودة.
وانظر إلى أحوالنا الآن. يمكننا أن نقول أن الحال قد انعكست تماماً. الأغلبية تمتلك سيارة أو أكثر، انتشار المطاعم السريعة والبطيئة دليل على كمية وافرة من الرفاهية، شراء الثياب الجديدة لا موسم له، والسفر مقارنة بالأسفار القديمة صار أشبه ما يكون بسرعة انتقال عرش بلقيس للنبي سليمان عليه السلام . الكثير جداً من الناس عندهم خادمات، والأغلب يمتلك جوالات ذكية (وإن اضطر لشرائها مستعملة) .
ومع كل ذلك، لا زال كثير من الناس لا يرى إلا نصف الكوب الفارغ .
لماذا نرفض الاعتراف بأن الحياة جميلة؟
لماذا نصر على أننا (مساكين) و(حالنا تحزّن) ونظل في بؤس، فقط لأننا لم نحقق الكمال في جميع أمورنا. صاحب المازدا يريد ليكزساً فيسخط على (مازدته)، وصاحب الليكزس يريد بِنتلياً فيسخط على ( لِكزسه)، الطويل يتمنى لو كان قصيراً لأنه أجمل، والقصير يعجبه الطول لأنه (أكشخ) ..الفتاة تتمنى لو كانت ذكراً لتنعم بالحرية، والذكر يتمنى لو كان أنثى ليرتاح (لأن الأنثى عندنا ملكة!)، وبين هذا وذاك تكمن (الحلطمة) والتوجع والشعور بالفقد واليتم والمرارة والنقص..
مشكلتنا أننا لا ننظر إلى التفاصيل الدقيقة التي تجعل الحياة أجمل.
تلفت أنظارنا أحياناً بعض الدور في أناقتها وفخامتها، ولو أمعنا النظر لوجدنا أن ذلك يعود لتفوقها على غيرها بالاهتمام بالتفاصيل: اللوحات، التحف الصغيرة على الطاولات الجانبية, مفارش الطاولات، زينة الستائر، البسط المتفرقة، الوسائد المتناثرة وغيرها. كلما أمعن المصمم في الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة كانت الدار أرقى وأجمل.
ماذا عن حياتك؟ أليس فيها من الدقائق ما يحيل حياتك نعيماً ، لو تفكرت ؟
ألم تلحظ مشاعر الراحة تغمرك حين تدخل بيتك المكيف هرباً من أشعة الشمس ( الشاوية) ظهراً، فتعانق خياشيمك رائحة الطعام الزكية تدغدغ بطنك الخاوية؟
ألم يلفت نظرك قراءة ابنتك الصغيرة للقرآن ، أو لثغة آخر العنقود وهو ويتكلم فلا تتمالك نفسك من أن تلثم فاه كلما لثغ؟
ألم تشعر بالأمان كلما ضمتك ذراعي والدك المحب إلى صدره، أو شيعتك دعوات أمك بالتوفيق والصلاح ورعاية المولى وحفظه؟
ألم يمتلئ قلبك حباً كلما التقت عينك بعيني زوجتك في ساعة ود، أو همس زوجكِ في أذنكِ بكلمة عشق ووله؟
ماذا عن حدب أخوتك وقت الشدائد، وجمَعة الأهل المتآلفين في الأعياد والأفراح، وتفاني زملاء العمل في أعمالهم، وجمال الصداقة الصدوقة في كل وقت؟
بل ماذا عن براعم التذوق (الصاحية) التي تصف الطعوم بدقة، والجسد القوي الذي يحملك ويخدمك دون مساعدة خارجية.. ماذا عن حواجبك ؟
حينما أُصبت بالسرطان وتناولت العلاج الكيماوي صار رأسي لوناً واحداً شاحباً ، لا لون مميز فيه إلا حدقتاي. كنت أرسم حواجبي بالقلم وأضع الكحل لأذكر نفسي بوجود هذين العضوين في وجهي . كنت أنظر إلى وجهي المعدّل بعد ذلك في المرآة وأقول : يا الله ! الحمد لك على نعمة الحواجب .. ماذا عنك أنت ؟ هل شكرت الله قط على نعمة الحواجب؟
هناك الكثير من الجمال في حياتنا ، ولكن مصدر القوة أو الضعف، الإيجابية أو السلبية، العزم أو الإعاقة ، كلها في قلوبنا وعقولنا، وليست في الحياة من حولنا.
أحب أن أجرب الحياة بكافة أشكالها لأستمتع، والقاعدة عندي تقتضي أن ( النكد مش حلو).
أحب أن آكل البيتزا الطازجة حارة جداً فأستمتع بالجبن ( المطاطي) ومذاق صلصة الطماطم الغنية بنكهة الريحان والزعتر البري ، فإذا باتت فضلتها باردة من الثلاجة لأستمتع بالطعم الحقيقي للعجين والجبن الذي حجبه عني حرارة الطعام، ولكليهما طعم خاص.
وكلما لبست الكم الضاغط الذي يغطي جميع ذراعي اليسرى بسبب الليمفاديما (الوذمة) الناتجة عن استئصال الغدد الليمفاوية في الإبط بسبب السرطان ، وضاقت به نفسي ذكرتها بأن وجودها في يدي خير من وجودها في ساقي مثلاً حين تنتفخ فتكبر قدمي مقاساً أو مقاسين فأضطر لشراء زوجين من نفس الحذاء بمقاسين مختلفين !
وعندما فقدت شعري بعد الكيماوي اعتبرت ذلك (نيولوك) جديداً، تحديت قريباتي وصديقاتي –مازحة- أن يأتين به، وأنى لهن .
أحب – كلما واجهتني أيام عصيبة _ أن أمني نفسي وأهدئها : هناك حكمة، هناك لطف، هناك رحمة ولابد ، فهذا القدر المؤلم هو من الحكيم اللطيف الرحيم.. ابحثي عن الجمال.. ارفعي بساط الألم وفتشي عن النعم الباهرة أسفله.
كم كان جميلاً لو اجتمعت كل المتع بكمالها لدى المرء ، ولكن هذا أمر غير واقعي ، فكان لابد أن نتعلم كيف نثمّن كل ما لدينا ونستمتع بجمال الحياة كما هي – إذا أخفقنا في تعديلها- وهكذا فقط سندرك أن الحياة جميلة، وأنها مثل لعبة الكمبيوتر : كلما سبرت أغوار المرحلة واستكشفت خباياها، وجدت هدايا صغيرة وستُفتح لك مراحل جديدة و (عوالم) مثيرة بعد قضائك على ( الوحش الأخير) : السلبية ..
العب بذكاء !
أرسلت فى نظرات ثاقبة, خواطر ، | مصنف نعم الله, الفرح, السرطان, تطوير, خواطر, سرطان الثدي | 11 تعليق
جميلة جدا هذه التدوينة يا هناء! ما أكثر الجمال حولنا وفي حياتنا و نحن له غير مدركون! حقيقة كنتُ محتاجة لتدوينة إيجابية كهذهَ! شكرا لكِ! 🙂
الحياة ؛ نحنُ من نُضفي عليها الجمال ، وروعتها لا تكون إلا إن نبعت من ذاتنا .. إن تصالحنا مع أنفسنا ومع الدنيا من حولنا .. حقيقة نُسلّم بها ولا مردّ لنا عنها ،
ولكن ؛
ثمّة واقعٌ أعيشه ويعيشه معي آخرون ، حين نغيّب كل الجمال الذي يحيطنا رغم أننا نراه ونوقن أنا مُنعمين فيه ، ونقتصره على غائب ، ربما نحن نرفض أن نرى الجمال إلا فيه !
وسؤال : كيف نكسر ما طوقنا به أنفسنا من ظنون : أن الحياة كلها في ذاك الغائب البعيد ؟
أبلة هناء ؛
في ناس يقولوا : البشر لا يقرؤون لمن يلحق بهم ! دي العبارة خلتني أخبي مقالاتي وما أحب أقول لأحد يقرأ لي ، أحس كأني بأشحت ،
في المقابل : شفتكم تعرضوا مقالكم للقراءة ، وإنتوا أكيد محا تسووا شيء يقلل من قيمتكم في عين الناس ، بس سار عندي تضارب !
يمكن أنا حساسة وماصدقت ألقى دي العبارة عشان أتوكأ عليها كسبب في إخفاء كتاباتي 😦
أحتاج رأيكم وأعتذر إني دخلت المواضيع في بعضها ، بس يمكن جوابكم يفتح أبواب مُغلّقة ، غلّقتها عليّ !
وعد .. أنا كنت زمان أشعر أني حين أعرض مقالي للقراءة فكأني بأشحت ، ولكن كيف يمكن للبائع أن يبيع سلعته إذا لم يعرضها للبيع ؟؟ عرض الكتابة على الغير للقراءة والتقييم والنقد مهم جدا للكاتب ليعرف مواطن ضعفه ويطور من كتاباته .. وكذلك فالتشجيع الذي يلقاه من الغير يرفع من روحه المعنوية كثيراً 🙂
بالتوفيق !
لو كانت غايتك من النشر استجداء الثناء فلا تفعلِ فهذه الشِحادَة بأمها وأبيها (ابتسامة)
أما النشر للتقييم والتقويم والإفادة والاستفادة فلا يشغلكِ عن ذلك إلا الإتقان ”إن اللهَ يُحبُ إذا عَمَلَ أحدُكم عَمَلًا أن يُتقِنهُ“
لولا النشر لما علمنا عن أسواق الجاهلية (عُكاظ ومَجِنَّة و…) وما كان للشعراء والأدباء أن تقوم لهم قائمة!!
That kind of thinking shows you’re an expert
رائعة هي روحك يا هناء …. تلوين الحياة يحتاج مزيد من الذكاء الذي كنا نمارس تلقائياً .. وبات اليوم يُسمى ذكاءً عاطفياً يدفعون الثمن ليتدربوا عليه فلا يجنون سوى مزيداً من الخسارة …
أعجبني كثيييراً ما كتبتي …
حياك الله هنوا اشتقت لتدوينتك وواعتقد ان اللعب بذكاء في هذه الحياة يحتاج نفس راضية وقلب مؤمن وعقل مستقيم ومراس غير قليل وقبل كل ذلك توفيق من رب العالمين يجعلنا نحس بنعمه علينا ويلهمنا الشكر علي هذه النعم
كم هي رائعة حروفك وروحك أبلة هناء
مشكلتنا دائما نتطلع لمن فوقنا ولا نرى ما عندنا من النعم ،ففي حياتنا تفاصيل صغيرة تسعدنا ولكن لانلقي لها بالا حتى نفقدها
اللعب بذكاء يجعل الحياة تستمر ولا تتوقف على مرحلة ما وفي كل مرحلة نكتسب خبرة في حل الصعوبات و نفرح كثيرا بالمنجزات
قَرأتُ عن لقمان: ”يا بُني: شاور من جرّبْ، فإنه يُعطيك من رأيهِ ما قامَ عليه بالغلاء، وأنتَ تَأخذهُ بالمجّان.“. مقالة عظيمة هي نتاج تجربة أعظم. أقرؤها وقد ضِقتُ ذرعًا ببعض ما أملك، فما انتهيت إلا وغلبتني حالة من الرضا. كما قال سيد البشر ﷺ ”وارضَ بما قَسَمَ اللهُ لك تَكُنْ أغنى النّاس“ وفي هذا مبدأ من مبادئ الحياة الجميلة.
المشكلة ليست في الحياة ولا في نصيبنا من الرزق، المشكلة أننا فقدنا التأمل حتى الآيات الكونية لم تَعُدْ سِوى معلومة تُقرَأ أوحديث يُروَى أو تغريدة تُدَوّر*. التأمل والتفكر في الحياة سيجعلنا ننظر إلى ”التفاصيل الدقيقة التي تجعل الحياة أجمل“.
دعونا لا ننتظر حتى نفقد تلك التفاصيل لنعرف قيمتها.
بالمناسبة لم أعرف أن البيتزا لذيذة حتى بعد أن تبرد!! ^^
________
*تُدوّر: من التدوير وهو تعريب ريتويت كما قرره مجمع اللغة.
لا شعوريا وجدت نفسي أردد ” الحمد لله الحمد لله الحمد لله ” !
أعتقد أني أحتاج لقراءة هذه التدوينة أسبوعيا للتذكير
شكرا أستاذة هناء كل تدوينة جديدة أجمل مما قبلها