كانت الساعة تقارب الثانية عشرة ليلاً حينما دخل حسن سريعاً إلى منزله. كان المنزل غارقاً في الظلام إلا من لمبة الدهليز النيون “تغمز” بصفاقة. نظر إليها بغلّ و همس في نفسه: “يا الله، متى سأغيرك؟ وجع! “.
فتح باب حجرة أمه برفق فوجد جدته نائمة، أما فراش أمه فكان فارغاً. أغلق الباب بهدوء واتجه إلى حجرة الاستقبال والتي تسميها أخته إيناس مجازاً “صالون”! نور الحجرة يتسرب من أسفل الباب، لابد أن أمه تنتظره هناك بجانب ستارتها المفضلة. دخل ليجدها غافية، متكئة على خدها بجانب نافذة الصالون المشرعة وستارتها البيضاء ذات القماش الأمريكي المزركش تتحرك بخفة ودلال مع هبات النسيم الرطبة. تأملها، كما يفعل في كل مرة تكون نائمة أو متعبة. يحبها جداً ويحب أن يتأملها دائماً. امرأة في أوسط الثلاثينيات، معتدلة القوام، حنطية تميل إلى البياض، ذات شعر بني ناعم وصوت به بحة خفيفة، وهالات سوداء تحت عينيها تميز وجهها الهادئ. هالات تحكي قصصاً وقصصاً، يستمع إليها بقلبه، ويضيف إليها خياله الشيء الكثير، ثم تنطلق أصابعه لتكتب. تكتب عن ذلك الرجل الذي وهب زوجته ثلاثة أولاد ثم اختفى إلى حيث لا يدري. هذه القصة الوحيدة التي لم ولن يجرؤ على أن يُقرِئها أحداً. هذه القصة التي تفضح حياته، فكان يخبؤها على الدوام تحت درجه: يخرج الدرج ويضع الأوراق على الأرض بالأسفل ثم يعيد الدرج مكانه. حتى إبليس نفسه لن يعرف أين وضعها.. هكذا ظن!
-ماما!
انتبهت الأم من نومها وقامت فزعة لتعاتبه وهي تحضنه: ” لماذا تأخرت؟ أشغلتني عليك “.
استرخى قليلاً بين ذراعي أمه، وتسللت رائحة عطر الليمون المفضلة إلى أنفه قبل أن تتخلل أصابعها الطويلة شعره تداعبه لينعما معاً بدقائق استرخاء كانت بمثابة وردهما اليومي ..
– لماذا تأخرت ؟ هل تعشيت ؟
– نعم .. تناولت باقي ورق العنب والفرموزا .
طبعت قبلة طويلة على جبينه المغبر ثم قامت متناسية تجاهله الإجابة عن سؤالها الأول وقالت :
– اغتسل ولا تنس الوتر ، و نم فوراً .. ستتعبني في الاستيقاظ للفجر غداً .
– طيب. لا تنسي أن غداً الخميس، والمباريات ستكون كثيرة في عطلة الأسبوع .. نامي أنت أيضاً فسينتظرك عمل شاق .. خذي الغلة !
ضحكت ليلى مثل كل مرة يستخدم فيها حسن هذه الكلمة التي تشعرها أنها رئيسة عصابة ، ثم تناولت النقود وخرجت .
قام حسن ليغتسل ويصلي الوتر ثم فرد فراشه الذي يحتفظ به عادة في غرفة البنات وأغلق النور ، وقبل أن يفكر في أي شيء غرق في سبات عميق ..
كل الأولاد في سن الخامسة عشر عندهم ما يلهيهم من مشاغل المراهقة؛ لعب الكرة، مشادات الحواري، مغازلة الفتيات في الأسواق، مباريات البلي ستيشن، لكن حسناً كان مشغولاً بنفسه. كان يستهويه أن يجلس لساعات طوال يحلم ويحلم ، فإذا ما انتقدت أخته أفنان صمته الطويل وانطواءه بادرها بابتسامة مستفزة وقال: “وما يضيرك؟ أنا كل يوم في حال. يوماً أكون ملكاً، ويوماً أكون ممثلاً مشهوراً ، ويوماً أكون لاعباً محترفاً، وفي كل آن أعيش الدور كاملاً، بالثياب والقصور والاهتمام والطعام، أشم الروائح الجميلة ، وأنام على الأسرة الوثيرة، وأنعم بالنعيم وأتذوق اللذيذ من المآكل “. فتضحك أفنان ساخرة وتقول: “أكاد أقسم أنك تفعل كل ذلك لأجل الطعام”. فيهز رأسه بضيق عندما يسمع نبرة الاستهزاء بسمنته ، ثم يغادر البيت ويمتطي دراجته ويدور بها في الأحياء المجاورة لينسى كلام أخته المؤذي، يسمع ويرى ويشم وسرعان ما تتراكم في ذهنه الخيالات تنتظر خلو يده لتجري بالقلم على صفحات فارغة تخط قصصاً بديعة ..
كان هذا الغرق في الخيال كثيراً ما يسبب له المشاكل أثناء جولته بدراجته مساء ليبيع ورق العنب والمعجنات اللذيذة التي تصنعها أمه و جدته عند تجمعات الشباب. يقف أمام نافذة تسترعي انتباهه بستائرها المسدلة فيسافر بخياله إلى ما ورائها لينسج قصة فيحسبه رب البيت متحرشاً، أو يتطلع بفضول إلى مجموعة من “أولاد الشوارع” محاولاً تخمين شخصياتهم الحقيقة التي تختفي وراء وقاحتهم البالغة لينال لكمة أو استهزاء بسمنته على أقل تقدير جزاء فضوله.
لكن أجمل ما كان يشغل خياله هو التفكير بأبيه. أبيه القوي الوسيم، الطويل ممشوق القوام.
لا، ليست هذه الأوصاف من بنات أفكاره هذه المرة. كانت حقيقة، ولعلها الحقيقة الوحيدة التي تتعلق بأبيه الذي اختفى من حياته في ظروف يجهلها هو على الأقل.
لا يزال يذكر أيامه الجميلة معه ، حين كان في التاسعة كانوا كشأن كثير من عوائل جدة تتمشى أسرته المتحابة على الكورنيش عصر كل جمعة ؛ والداه الجميلان -بنظره- وأختاه إيناس وأفنان وجدته لأمه التي انتقلت للعيش مع ابنتها الوحيدة بعد وفاة زوجها في سن مبكرة نسبياً .
كان يعجبه أن يقف إلى جوار أبيه ،ممسكاً بيده في مواجهة البحر يرقبان الموج يتكسر على صخور الشاطئ المكسوة بالطحالب الخضراء. ينظر أبوه إلى الأفق البعيد وينظر هو إلى أبيه منبهراً فيتصوره وكأنه أحد أبطال المسلسلات الكرتونية اليابانية المفضلة لديه.. كم يشبههم بطوله الفارع وبنيته القوية وشعره الداكن ولونه الأسمر الأخاذ ، حتى صوته العميق .. يشبههم تماماً .. تماماً تقريباً لولا هذه السيجارة التي لا تكاد تفارق يده..
لا يزال يذكر أحاديث أبيه الممتعة عن شاطئ جدة القديم، حين كان يزوره صغيراً مع أسرته. كان النزول إليه متاحاً للجميع ، ولم يكن فيه كل تلك الحواجز التي تحول بين المرتادين والخوض في مياه الشاطئ المنعشة. لا تزال الصور التي رسمها حسن في مخيلته عن حياة أبيه في جدة القديمة تداعب خياله ، بل وجعل كثيراً منها مشاهد في قصصه التي كان يكتبها. صيد سرطان البحر الذي كان يكثر في شواطئ جدة بطعنة سكين واحدة في منتصف ظهره ثم الاستمتاع بشيّه على الحطب والتلذذ بـ”فصفصته”. بائعو الخضار والفواكه يدفعون عرباتهم في شوارع جدة ظهراً ينادون على بضائعهم بصوت مرتفع فتسمعهم ربة المنزل وتطل عليهم من “البلكونة” تنادي لهم باحتياجاتها وتضع النقود في “زنببيل” من الخوص وتدليه من الأعلى بحبل. يزن البائع “مقاضيها” بميزان صدئ ذي كفتين مستعملاً الأوزان الحديدية التقليدية، ثم يضع مشترواتها في الزنبيل وترفعه إليها. وقد تفعل الشيء ذاته مع باعة السمك الذين يأتون بالأسماك المختلفة طازجة من البحر فتشتريه ربة المنزل لتفاجئ زوجها بوليمة محترمة من “السمك الفرني” أو”الحوت بالحمر” وكباب السمك والناجل المقلي وربما بعض الربيان الضخم. أخبره والده كيف أن والدته كانت تطلب منه أحياناً أن ينشر الغسيل على الحبل في “البلكونة” لأن نظرات سائقي السيارات تضايقها إذا مروا أسفل شرفتها، وأكّد له كم كان ذلك الأمر مملاً ومتعباً:
– ولكن ما من طاعة أمر الوالدة بد ! لم أكن أستطيع أن أرد طلباً لأمي. كان نفوذها في نفسي عظيماً!
أما “فرّقنا” فكان عالماً آخر من السعادة.. كان “فَرّقْنا” رجلاً عجوزاً، يَمَنيّاً في الغالب من أهل جدة يحمل على رأسه بقجة ضخمة .. ضخمة جداً، كان يتعجب صغيراً كيف يمكن لهذا الكهل أن يحملها على رأسه. ولم يكن اسمه “فرقنا” ، ولكنه كان يدور على المنازل والدور في الصباحات، يدق الباب ويقول: “فرقنا” ، يعني بذلك “متفرقات”، فعُرفت الوظيفة بهذا الاسم. وكان إذا ما دق باب أحدهم تعالت أصوات الصغار بهجة وجذلاً ، وفتحت له ربة البيت الباب لتتفقد بضائعه المختلفة فيفرش “جراب الحاوي” ويخرج منه العجائب: قطع قماش مختلفة، ألعاب، أدوات مدرسية، عطور.
-“باختصار، كان “فرقنا” بمثابة محل أبو ريالين متنقل، وكانت أمي كثيراً ما تتحاشى أن تفتح له الباب ليقينها أنها لو فعلت فستنفق ما يزيد عن الخمسين ريالاً ذلك اليوم .. ما كانت أمي تستطيع أن ترد لي أو لأختيّ طلباً تقريباً”.
كان الأب يحكي ويحكي، وكان حسن ينصت وينصت. كلاهما كان يجد في هذه الحكايات بهجة وسروراً؛ الأب يستعيد طعوم الذكريات وروائحها وسعادتها، والابن يغمض عينيه ويتخيل ويشعر بمشاعر أبيه ثم ينتهي الأمر بامتلاء جعبته بالكثير من المعلومات الفريدة التي يطعم بها قصصه.
كل الذكريات عن أبيه كانت جميلة.. كلها لولا تلك السيجارة المقيتة ذات الرائحة العجيبة.
أحياناً كان الأب يتكلم مع ابنه وهو ينفث دخان السيجارة فيتخيله حسن تنيناً أسطورياً ينفث من أنفه ناراً. ضبطه أبوه مرة يحاول أن يشعل إحداها ليجرب “المتعة” التي كان يجدها أبوه في التدخين، وكانت المرة الأولى -والأخيرة- التي يضربه فيها ضرباً مبرحاً. بكى على حضن أمه وبكى حتى نام.
كان يسمع أحياناً صوت أمه يرتفع في حجرتهما وهي تجادل أباه في هذه اللعينة! لم ترتفع أصواتهما أبداً إلا عند الحديث عن التدخين ، وكان يتعجب، أي سحر وراء هذا الاختراع العجيب في نفس أبيه ؟
كان أبوه كالطيف الجميل، كالحلم العذب، كنسمة هواء جميلة في يوم صيف قائظ، ولابد للطيف من الاختفاء، ولابد من أن نصحو من أحلامنا لنجد الواقع ولابد لقيظ الصيف أن يهيمن.
استيقظ يوماً ليجد أباه قد غادر، وليجد أمه تبكي .
مات؟ لا .. غادر فقط .. بلا أي تفاصيل ..
حسن أيها الأصدقاء ، هذا هو الفصل الأول من روايتي .. سأحتاج إلى الكثير من المساعدة ، حتى أني لم أضع عنواناً للفصل .. أجد كثيراً من الصعوبة في اختيار العناوين الملائمة .. اكتبوا لي في التعليقات عن آرائكم ومرئياتكم ، ماذا تعتقدون ، ماذا تقترحون أن يحدث ، وسأختار ما أجده مناسباً ولاشك ، وفي كل مرة أستنير برأي صديق فسأذكره في نهاية التدوينة .. أنوه أيضاً إلى أن التغيير في الفصول التي أنشرها أمر وارد حسب المستجدات ..
أتمنى لكم قراءة ممتعة 🙂
جميييييييل
حلوة .. ذكرتني ببيتنا الشعبي اللي جمع كل العائلة سوا … وبالبائع اللي معه حمار في ديرتنا لما كنت اسافر في الديرة :))) حبيت …… الاسم ” أطياف ذكرى عالقة “
راائعه جدا ماشاء الله، تحمست اقرا الباقي $$
تحمست اعرف وين اختفى الاب ؟! و ليه ؟ تحمست اعرف وش الفكرة اللي ببالتس..
اما عنوان الفصل، انا ابدا ماني جيده بالعناوين ،
لكن البارت يتكلم اكثر شي عن خيال حسن ،
فـأقترح عنوان يتكلم عنه”خيال حسن” او شي زي كذا ..: $ *محاولة تسمية فاشله*
المهم ، ننتظرتس $$ ♡
ماشاءالله تدوينتك حماسيه ياأستاذة هناء مني قادرة أوقف قرائه أبغي أعرف بسرعه الاحداث سلمت يمينك وموفقه دائماً
ماشاءالله .. طبعاا كالعادة أسلوبك مشوق ويشد .. جميل ومحمس إني أعرف الباقي من القصة ..
نفسي افكرلك في اسم جميل للفصل لكن المخ متنك!
بالنسبة لتوقعاتي .. خيالي شااطح بس خدي اللي يعجبك وطنشيه كله ازا ماعجبك ..
” العلاقة بين الام والاب مو واضحه – شخصية الاب مو واضحه – حياتهم كعائلة يبغالها تفصيل اكتر شوية ”
اقترح الفصل الجاي يتكلم عن وحدة من دي التلاته الاشياء عشان نقدر نفكر ايش ممكن سير الاحداث يكون!